فصل: تفسير الآية رقم (13):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (12):

{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)}
والآيات تسير في إيضاح حق الذكر مثل حظ الأنثيين؛ وهذه عدالة؛ لأن الرجل حين تموت امرأته قد يتزوج حتى يبني حياته، والمرأة حين يموت زوجها فإنها تأخذ ميراثها منه وهي عرضة أن تتزوج وتكون مسئولة من الزوج الجديد.
إن المسألة كما أرادها الله تحقق العدالة الكاملة. والكلالة- كما قلنا- أنه ليس للمتوفى والد أو ولد، أي لا أصل له ولا فصل متفرع منه.
فإذا كان للرجل الكلالة أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء بالثلث، وذلك أيضا من بعد الوصية التي يوصى بها أو دين. ولماذا يتم تقرير هذا الأمر؟ لنرجع مرة أخرى إلى آية الكلالة التي جاءت في آخر سورة النساء.
إن الحق يقول فيها: {فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] في الآية الأولى التي نحن بصددها يكون للواحد من الإخوة سدس ما ترك إذا انفرد، فإذا كان معه غيره فهم شركاء في الثلث. هذا إذا كانوا إخوة من الأم. أما الآية التي يختص بها الحق الأختين بالثلثين من التركة إذا لم يكن معهما ما يعصبهما من الذكور فهي في الإخوة الأشقاء أو الأب، هكذا يفصل القرآن ويوضح بدقة مطلقة.
وماذا يعني قوله الحق: {غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَلِيم}؟
إنه سبحانه يريد إقامة العدل، فلا ضرر لأحد على الإطلاق في تطبيق شرع الله؛ لأن الضرر إنما يأتي من الأهواء التي تفسد قسمة الله. فقد يكون هناك من يرغب ألا يرث العم من بنات أخيه الشقيق، أو لأب، أو يريد آخر ألا يُدخل أولاد الإخوة الذكور أشقاء أو لأب في ميراث العمة أو بنات العم الشقيق أو لأب، لمثل هؤلاء من أصحاب الهوى نقول: إن الغرم على قدر الغنم، بالله لو أنك مت وتركت بنات ولهنّ عمّ، أليس مطلوبا من العم أن يربي البنات؟ فلماذا يجبر الحق العم على رعاية بنات أخيه إن توفي الأخ ولم يترك شيئا؟ لذلك يجب أن تلتفت إلى حقيقة الأمر عندما يأتي نصيب للعم في الميراث. وعلينا أن نعرف أن الغرم أمامه الغنم.
وقلنا: إن القرآن الكريم يجب أن يؤخذ جميعه فيما يتعلق بالأحكام، فإذا كان في سورة النساء هذه يقول الحق سبحانه وتعالى في آخر آية منها: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] فما الفرق بين الكلالة حين يجعل الله للمنفردة النصف وللاثنتين الثلثين، وبين الكلالة التي يجعل الله فيها للمنفرد السدس، ويجعل للأكثر من فرد الاشتراك في الثلث دون تمييز للذكر على الأنثى؟
لابد أن نفرق بين كلالة وكلالة.
هما متحدتان في أنه لا أصل ولا فرع للمتوفيي. والمسألة هنا تتعلق بالإخوة.
ونقول: إن الإخوة لها مصادر متعددة. هذه المصادر إما إخوة من أب وأم، وإما أخوة لأب، وإما إخوة لأم. فإذا كان أخ شقيق أو لأب فهو من العصبة الأصلية، وهما المعنيان في الآية 176 من السورة نفسها.
وبذلك تكون آية السدس والثلث التي نحن بصددها الآن متعلقة بالإخوة لأم. إذن فالكلالة إما أن يكون الوارث أخا لأم فقط، وإما أن يكون أخا لأب، أو أخا لأب وأم. فالحكمان لذلك مختلفان؛ لأن موضع كل منهما مختلف عن الآخر. وإلا لو أن مستشرقا قرأ هذه الآية وقرأ الآية الأخرى وكلتاهما متعلقتان بميراث الكلالة، وأراد هذا المستشرق أن يبحث عن شيء يطعن به ديننا ويطعن به القرآن لقال- والعياذ بالله- القرآن متضارب، فهو مرة يقول: للكلالة السدس، ومرة يقول: الثلث، ومرة أخرى النصف، ومرة أخرى الثلثان، ومرة للذكر مثل حظ الأنثيين! ونرد على من يقول ذلك: أنت لم تلاحظ المقصود الفعلي والواقعي للكلالة؛ لذلك فأنت تفهم شيئا وتغيب عنك أشياء.
والحق قال: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} ولنا أن نلاحظ أن في كل توريث هذه (البعدية) أي أن التوريث لا يأتي إلا من بعد الوصية الواجبة النفاذ والدّين.
ولنا أن نسأل: أيهما ينفذ أولا، الوصية أم الدين؟
والإجابة: لاشك أنه الدين؛ لأن الدين إلزام بحق في الذمة، والوصية تطوع، فكيف تقدم الوصية- وهي التطوع- على الدين، وهو للإلزام في الذمة.
وعندما يقول: {غَيْرَ مُضَآرٍّ} لابد أن نعرف جيدا أن شرع الله لن يضر أحدا، وما المقصود بذلك؟ المقصود به الموصي، ففي بعض الأحيان يكون المورث كارها لبعض المستحقين لحقهم في ميراثه، فيأتي ليوصي بمنع توريثهم أو تقليل الأنصباء، أو يأتي لواحد بعيد يريد أن يعطيه شيئا من الميراث ولا يعطي لمن يكرهه من أهله وأقاربه المستحقين في ميراثه، فيقر لذلك الإنسان بدين، فإذا ما أقر له بدين حتى وإن كان مستغرقا للتركة كلها، فهو يأخذ الدين وبذلك يترك الورثة بلا ميراث.
وهذا يحدث في الحياة ونراه، فبعض من الناس أعطاهم الله البنات ولم يعطيهم الله ولدا ذكرا يعصّبهم، فيقول الواحد من هؤلاء لنفسه: إن الأعمام ستدخل، وأبناء الأعمام سيدخلون في ميراثي، فيريد أن يوزع التركة على بناته فقط، فيكتب دينا على نفسه للبنات.
ونقول لهذا الإنسان: لا تجحف، أنت نظرت إلى أن هؤلاء يرثون منك، ولكن يجب أن تنظر إلى الطرف المقابل وهو أنك إذا مت ولم تترك لبناتك شيئا وهن لا عصبة لهن، فمن المسئول عنهن؟ إنهم الأعمام، فالغرم هنا مقابل الغنم.. ولماذا تطلب البنات الأعمام أمام القضاء ليأخذن النفقة منهم في حالة وفاة الأب دون أن يترك له ثروة. فكيف تمنع عن إخوتك ما قرره الله لهم؟
وهنا بعض من الناس يرغب الواحد منهم ألا يعطي عمومته أو إخوته لأي سبب من الأسباب، فماذا يفعل؟ إنه يضع الوصية؛ لذلك حدد الإسلام الوصية بمقدار الثلث، حتى لا تحدث مضارة للورثة.
وقد حاول البعض من هؤلاء الناس أن يدّعوا كذبا، أن هناك دينا عليهم، والدين مستغرق للتركة حتى لا يأخذ الأقارب شيئا.
والإنسان في هذا الموقف عليه أن يعرف أنه واقف في كل لحظة في الحياة أو الممات أمام الله، وكل إنسان أمين على نفسه.
لذلك قال الحق سبحانه: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 11] والحق يلفتنا ألا نضر أحدا بأي تصرف؛ لأنها توصية من الله لكل ما يتعلق بالحكم توريثا ووصية وآداء دين، كل ذلك توصية من الله، والتوصية ليست من مخلوق لمخلوق، ولكنها من الله؛ ففيها إلزام وفرض، فسبحانه القائل: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] والوصية هنا افتراض، ومثل ذلك يقول الحق: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] وما دامت التوصية تأتي من المالك الأعلى، فمعنى ذلك أنها افتراض، ويذيل الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد تناولها بالخواطر الإيمانية: {والله عَلِيمٌ حَلِيم} أي إياكم أن تتصرفوا تصرفا قد يقره ويمضيه القضاء، ولكنه لا يبرئكم أمام الله؛ لأنه قد قام على باطل.
مثال ذلك: هناك إنسان يموت وعليه دين، عندئذ يجب تسديد الدين، لكن أن يكتب الرجل دينا على نفسه غير حقيقي ليحرم بعضا من أقاربه من الميراث فعليه أن يعرف أن الله عليم بالنوايا التي وراء التصرفات. فإن عّميتم أيها البشر على قضاء الأرض، فلن تعموا على قضاء السماء.
وهذه مسألة تحتاج إلى علم يتغلغل في النوايا، إذن فمسألة القضاء هذه هي خلاف بين البشر والبشر، ولكن مسألة الديانة وما يفترضه الحق، فهو موضوع بين الرب وبين عبيده، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث شريف: (إنما أنا بشر وأنكم تختصمون إليّ، فلعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضى له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها).
إن الرسول يعلمنا أنه بشر، أي أنه لا يملك علم الغيب ومداخل المسائل، وعندما يرفع المسلمون إليه قضاياهم فقد يكون أحدهم أكثر قدرة على الفصاحة وذلاقة اللسان، ويستطيع أن يقلب الباطل حقا، والآخر قليل الحيلة، فيحكم النبي بمقتضى البينة القضائية، ولكن الأمر الواقع يتنافى مع تسلسل الحق؛ لذلك يعلمنا أنه بشر، وأننا حين نختصم إليه يجب ألا يستخدم واحد منا ذلاقة اللسان في أخذ ما ليس له؛ لأنه حتى لو أخذ شيئا ليس له بحكم من الرسول صلى الله عليه وسلم، فليعلم أنه يأخذ قطعة من الجحيم.
إذن فمعنى ذلك أنه يجب علينا أن نحذر في الأمور، فلا نعمي ولا نأخذ شيئا بسلطان القضاء ونهمل مسألة الديانة. فالأمور التي تتعلق بالدّين لا يجوز للمؤمن المساس بها، إياكم أن تظنوا أن حكم أي حاكم يحلل حراما أو يحرم حلالا، لا. فالحلال بيّن، والحرام بيّن، والقاضي عليه أن يحكم بالبينات الواضحة.
ومثال على ذلك: هب أنك اقترضت من واحد ألفا من الجنيهات، وأخذ عليك صكا، ثم جاء المقترض وسدد ما عليه من قرض وقال لمن اقترض منه: (عندما تذهب إلى منزلك أرجو أن ترسل لي الصك) ثم سبق قضاء الله، وقال أهل الميت: (إن الصك عندنا) واحتكموا إلى القضاء ليأخذوا الدّين. هنا يحكم القضاء بضرورة تسديد الدين مرة أخرى، لكن حكم الدّين في ذلك يختلف، فالرجل قد سدد الدين ولا يصح أبدا أن يأخذ الورثة الدّين مرة أخرى إذا علموا أن مورثهم حصل على دينه.
وذلك يقول لنا الحق: {والله عَلِيمٌ حَلِيم} حتى نفرق بين الديانة وبين القضاء. والحق يقول لنا: إنه {حَلِيم} فإياك أن تغتر بأن واحدا حدث منه ذلك، ولم ينتقم الله منه في الدنيا، فعدم انتقام الله منه في الدنيا لا يدل على أنه تصرف حلالا، لكن هذا حلم من الله وإمهال وإرجاء ولكنّ هناك عقابا في الآخرة.
وبعد بيان هذه الأمور يقول الحق سبحانه وتعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله...}.

.تفسير الآية رقم (13):

{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)}
الأحكام المتقدمة والأمور السابقة كلها حدود الله، وحين يحدّ الله حدودا.. أي يمنع أن يلتبس حق بحق، أو أن يلتبس حق بباطل؛ فهو الذي يضع الحدود وهو الذي فصل حقوقا عن حقوق.
ونحن عندما نقوم بفصل حقوق عن حقوق في البيوت والأراضي فنحن نضع حدودا واضحة، ومعنى (حد) أي فاصل بين حقين بحيث لا يأخذ أحد ما ليس له من آخر. والحدود التي نصنعها نحن والتي قد لا ينتبه إليها كثير من الناس، هي نوعان: نوع لا يتعدى بالبناء، فعندما يريد واحد أن يبني، فالأول يبني على الأرض التي هي حق له، ويكون الجداران ملتصقين بعضهما ببعض. وعندما يزرع فلاح بجانب فلاح آخر فكل فلاح يزرع في أرضه وبين القطعتين حد، وهذا يحدث في النفع.
لكن لنفترض أن فلاحا يريد أن يزرع أرزا، وجاره لن يزرع أرزا، فالذي لن يزرع الأرز قد تأخذ أرضه مياها زائدة، فالمياه تصلح للأرز وقد تفسد غيره، ولذلك يكون الحكم هنا أن يقيم زارع الأرز حدا اسمه (حد الجيرة) ليمنع الضرر، وهو ليس (حد الملكية) فزارع الأرز هنا ينقص من زراعته مسافة مترين، ويصنع بهما حد الجيرة، حتى لا تتعدى المياه التي يُروي بها الأرز إلى أرض الجار. إنه حد يمنع الضرر، وهو يختلف عن الحد الذي يمنع التملك.
إذن فمن ناحية حماية الإنسان لنفسه من أن يوقع الضرر بالآخرين عليه أن ينتبه إلى المقولة الواضحة: (لا تجعل حقك عند آخر حدك، بل اجعل حقك في الانتفاع بعيدا عن حدك)، وهذا في الملكية. وذلك إذا كان انتفاعك بما تملكه كله سيضر بجارك. وكذلك يعاملنا الله، ويقول في الأوامر: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] وفي النواهي يقول سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] أي أنك إذا ما تلقيت أمرا، فلا تتعد هذا الأمر، وهذه هي الملكية، وإذا ما تلقيت نهيا فلا تقرب الأمر المنهي عنه. مثال ذلك النهي عن الخمر، فالحق لا يقول: (لا تشرب الخمر)، وإنما يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه}. أي لا تذهب إلى المكان الذي توجد فيه من الأصل، كن في جانب وهذه الأشياء في جانب آخر.
ولذلك قلنا في قصة أكل آدم من الشجرة: أقال الحق: (لا تأكلا من الشجرة)؟ أم قال ولا تقربا هذه الشجرة؟ سبحانه قال: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} [الأعراف: 19] وهذا حد اسمه (حد عدم المضارة) إنه أمر بعدم الاقتراب حتى لا يصاب الإنسان بشهوة أو رغبة الأكل من الشجرة.
وكذلك مجالس الخمر لأنها قد تغريك. ففي الأوامر يقول سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} وهذا ما يتعلق بالملكية.
وفي النواهي يقول سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا الحديث: «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه، ألاوإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
لذلك تجنب حدود الله. مثال ذلك قول الحق: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] إن الحق يأمر المعتكف بالمسجد أنه عندما تأتي له زوجة لتناقشه في أمر ما فعلى المؤمن أن يمتثل لأمر الله بعدم مباشرة الزوجة في المسجد. ولا يجعل المسائل قريبة من المباشرة، لأن ذلك من حدود الله. وسبحانه يقول: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا}.
وهنا في مسائل الميراث يقول الحق: {تِلْكَ حُدُودُ الله وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وذلك الفوز العظيم} [النساء: 13] وكان يكفي أن يقول الحق: ومن يطع الله. ولكنه قال: {ومن يطع الله ورسوله} من بعد بيان الحدود- وذلك لبيان أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضع حدودا من عنده لما حل، وأن يضع حدودا لما حرم. وهذا تفويض من الله لرسوله في أنه يُشرّع؛ لذلك فلا تقل في كل شيء: أريد الحكم من القرآن.
ونرى من يقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه حرام حرمناه. هؤلاء لم يلتفتوا إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم مفوض في التشريع وهو القائل: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] إنه صلى الله عليه وسلم مفوض من الله، وهؤلاء الذين ينادون بالاحتكام إلى القرآن فحسب يريدون أن يشككوا في سنة رسول الله، إنهم يحتكمون إلى كتاب الله، وينسون أو يتجاهلون أن في الكتاب الكريم تفويضا من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يشرع.
هم يقولون: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه وما وجدنا فيه من حرام حرمناه. وقولهم لمثل هذا الكلام دليل على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يقول، لأنهم لو لم يقولوا لقلنا: يا رسول الله لقد قلت: روي المقدام بن معدي كرب قال: حرم النبي صلى الله عليه وسلم أشياء يوم خيبر منها الحمار الأهلي وغيره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يقعد الرجل منكم على أريكته يحدث بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب الله فما وجدا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله».
فكيف يا سيدي يا رسول الله ذلك، ولم يقل أحد هذا الكلام؟
إذن فقولهم الأحمق دليل على صدق الرسول فيما أخبر. ويسخرهم الحق، فينطقون بمثل هذا القول لنستدل من قول خصوم النبي على صدق كلام النبي.
والحق يقول: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ} والذي يطيع الله ورسوله في الدنيا هو من أخذ التكليف وطبقه ويكون الجزاء هو دخول الجنة في الآخرة. لكن إدخال الجنة هل هو منهج الدين، أو هو الجزاء على الدين؟
إنه الجزاء على الدين، وموضوع الدين هو السلوك في الدنيا، ومن يسير على منهج الله في الدنيا يدخل الجنة في الآخرة، فالآخرة ليست موضوع الدين، لكن موضوع الدين هو الدنيا، فعندما تريد أن تعزل الدنيا عن الدين نقول لك: لم تجعل للدين موضوعا، إياك أن تقول: موضوع الدين هو الآخرة لأن الآخرة هي دار الجزاء، وفي حياتنا نأخذ هذا المثل: هل الامتحان موضوع المناهج، أو أن المناهج يقرأها الطالب طوال السنة، وهي موضوع الامتحان؟
إن المناهج التي يدرسها الطالب هي موضوع الامتحان، وكذلك فالدنيا هي موضوع الدِّين، والآخرة هي جزاء لمن نجح ولمن رسب في الموضوع؛ لذلك فإياكم أن تقولوا: دنيا ودين، فلا يوجد فصل بين الدنيا والدين؛ لأن الدنيا هي موضوع الدين. فالدنيا ُتقابلها الآخرة والدين لهما. الدنيا مزرعة والآخرة محصدة. بهذا نرد على من يقول: إن الدنيا منفصلة عن الدين.
ومن يطع الله ورسوله يدخله جنة واحدة أواثنتين أو جنات، وهل دلالة (من) للواحد؟ لا، إن (من) تدل على الواحد، وتدل على المثنى وتدل على الجمع، مثال ذلك نقول: جاء من لقيته أمس ونقول أيضا: جاء من لقيتهما أمس، وتقول ثالثا: جاء من لقيتهم أمس.. إذن ف (من) صالحة للمفرد والمثنى والجمع.
والحق هنا لا يتكلم عن فرد هنا أو جمع. كما قلنا في أول الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] على الرغم من أن القياس أن تقول: (إياك أعبد وإياك أستعين). لكن قال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ليوضح لنا أن المؤمنين كلهم وحدة واحدة في العبادة.
وهناك من يقول إذا دلت: (مَن) على المفرد فقد لحظنا لفظها، وإذا دلت على المثنى أو الجمع فقد لحظنا معناها.
ولمن يقول ذلك نقول: إن هذا الكلام غير محقق علميا؛ لأن لفظ (من) لم يقل أحد إنه للمفرد.
بل إنها موضوعة للمفرد والمثنى والجمع. فلا تقل: استعمل لفظ (من) مراعاة للفظ أو مراعاة للمعنى، لأن لفظ (من) موضوع لمعان ثلاثة هي المفرد والمثنى والجمع.
وقد سألني أخ كريم في جلسة من الجلسات: لماذا يقول الحق سبحانه في سورة الرحمن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] فقلت له: إن سورة الرحمن استهلها الحق سبحانه وتعالى: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان} [الرحمن: 1-3] وبعد ذلك قال الحق: {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} [الرحمن: 14-15] وقال سبحانه: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان} [الرحمن: 31] وقال تعالى: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] إذن فمن خاف مقام ربه، هو من الجن أو من الإنس، إن كان من الجن فله جنة، وإن كان من الإنس فله جنة أخرى. إذن فمن خاف مقام ربه فله جنتان.
وهناك من يقول جنتان لكل واحد من الإنس والجن، لأن الله لا يعاني من أزمة أماكن، فحين شاء أزلا أن يخلق خلقا أحصاهم عدا من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة، وعامل الكل على أنه مؤمن مطيع، وأنشأ لكل واحد مكانه في الجنة، وعامل سبحانه الكل على أنه عاص، وأنشأ له مقعدا في النار، وذلك حتى لا يفهم أحد أن المسألة هي أزمة أماكن.
فإذا دخل صاحب الجنة جنته، بقيت جنة الكافر التي كانت معدة له على فرض أنه مؤمن؛ لذلك يقول الحق: {وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72] فيرث المؤمنون ما كان قد أعد لغيرهم لو آمنوا.
إذن فالمعاني نجدها صوابا عند أي أسلوب من أساليب القرآن.
وهنا يقول الحق: {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} ويجب أن نفهم أن النهر هو الشق الذي يسيل فيه الماء وليس هو الماء، الحق يقول: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} فأين تجري الأنهار؟
أتجري الأنهار تحت زروعها، أم تحت بنيانها؟ ونعرف أن الزروع هي التي تحتاج إلى مياه، ونحن نريد أن نبعد المياه عن المباني كيف؟ ولكن ليس هناك شيء مستحيل على الله؛ لأنها تصميمات ربانية.
فالخلق قد تشق نهرا، ونجد من بعد ذلك النشع يضرب في المباني، لكن تصميمات الحق بطلاقة القدرة؛ تكون فيه الجنات تجري من تحتها مياه الأنهار، ولا يحدث منها نشع، سواء من تحت أبنية الجنات أو من تحت زروعها والذي يقبل على أسلوب ربه ويسأله أن يفيض عليه ويلهمه، فهو سبحانه يعطيه ويمنحه فالحق مرة يقول: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} ومرة أخرى يقول: {جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتِهَا الأنهار} فهذا ممكن وذاك ممكن.
فقوله سبحانه: {جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتِهَا الأنهار} قد يشير إلى أن الأنهار تكون آتية من موقع آخر وتجري وتمر من تحت الجنات.
لا. هي تجري منها أيضا يقول الله تعالى: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} حتى لا يظن أحد أن هناك من يستطيع أن يسد عنك المياه من أعلى. إنها أنهار ذاتية. وعندما نقرأ أن الأنهار تجري من تحت الجنات بما فيها ومن فيها من قصور فقد يقول قائل: ألا أستطيع أن آخذ من هذه وأنا مهندس أضع تصميمات مباني الدنيا وآخذ من قول الحق إنه من الممكن أن تقيم مباني تجري من تحتها الأنهار؟ وبالفعل أخذ البشر هذا الأمر اللافت.
نحن نقيم القناطر وهي مبان وتجري من تحتها الأنهار، وعندما تكون المواصفات صحيحة في الطوب والاسمنت إلى آخر المواصفات فلا نشع يحدث ولا خلخلة في المبنى. فالخلل الذي يحدث في المباني عندنا، إنما يأتي من آثر الخيانة في التناول. ومن الممكن أن تجري الأنهار تحت قصور الجنة. التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ألا يوحي ذلك للمهندس المسلم أن يحيا في هذه اللفتة الإلهية ويأخذ منها علما ويستطيع أن يقيم مباني تجري من تحتها الأنهار؟ لو تنبهت إلى ذلك إيمانية مهندس وأخذ يتعلم عن ربه كيفية أداء العمل. لفعل ذلك بتوفيق الله.
ولنتكلم على مصر التي تعاني من أزمة إسكان، ونجد أن المساحة المائية تأخذ قدرا كبيرا من الأرض، سواء أكانت النيل، أم الفروع التي تأخذ من النيل، وكذلك الترع الصغيرة وكذلك الطرق فلو أن هناك هندسة إيمانية لاستغلت المساحات والمسطحات المعطلة، نقيم عليها مباني تسع مرافق الدولة كلها، ويتم إنجاز المباني فوق الطرق وفوق المياه وفوق المصارف. وليس معنى ذلك أن نبني كل الأماكن حتى تصير مسدودة بالمباني، ولكن نبني الثلث، ونترك فراغا مقدار الثلثين حتى لا نفسد المنظر، ولا نتعدى على أرض خضراء مزروعة، إنها إيحاءات إيمانية على المهندس المسلم أن يفكر فيها.
إن بلدا كالقاهرة تحتاج إلى مرافق مختلفة متنوعة، ونستطيع أن نبني على الفراغات سواء أكانت فراغات في مساحات النيل شرط مراعاة الفراغات والزروع اللازمة لجمال البيئة وتنقيتها من التلوث. أم نبني المرافق تحت الأرض، ولن تكون هناك أزمات للإسكان أو المرافق، هذا بالإضافة إلى الانتفاع بالصحراء في هذا المجال.
والحق يقول: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا} صحيح أن الجنة ستكون نعيما ليس على قدر تصورك ولكن على قدر كمال وجمال قدرة الحق، فالنعيم الذي يتنعم فيه الإنسان يكون على قدر التصور في معطيات النعيم، وقلنا قديما: إن عمدة إحدى القرى قال: أريد أن أبني مضيفة وحجرة للتيلفون، ومصطبة نفرشها. هذا هو النعيم في تصور العمدة. ونحن في الحياة نخاف أن نترك النعيم بالموت أو يتركنا النعيم.
لكن كيف يكون النعيم عند صانع كل التصورات وهو الحق سبحانه وتعالى؟ لذلك تكون جنات النعيم دائمة، فلا أنت تموت ولا هي تذهب.
والخلود هنا له معنى واضح إنه بقاء لا فناء بعده {وذلك الفوز العظيم} وما هو (الفوز)؟
إنه النصر، إنه الغلبة، إنه النجاح، إنه الظفر بالمطلوب.
فإذا كان فوزنا في الدنيا يعطينا جائزة نفرح بها، فالفرح قد يستمر مدة الدنيا التي يملكها الواحد منا، فما بالنا بالفوز الذي يأتي في الآخرة وهو فوز الخلود في جنة من صنع ربنا، أليس ذلك فوزا عظيما؟
إننا إذا كنا نفرح في الدنيا بالفوز في أمور جزئية فما بالنا بالفوز الذي يمنحه الحق ويليق بعظمته سبحانه وتعالى، ولو قسنا فوز الدنيا بفوز الآخرة لوجدنا فوز الآخرة له مطلق العظمة، ومهما ضحى المؤمن في سبيل الآخرة، فهناك فوز يعوض كل التضحيات، ويسمو على كل هذا.
وإذا قال قائل: ألم يكن من الأفضل أن يقول: ذلك الفوز الأعظم نقول له: إنك سطحي الفهم لأنه لو قال ذلك لكان فوز الدنيا عظيما، لأن الأعظم يقابله العظيم، والعظيم يقابله الحقير فحين يقول الحق عن فوز الآخرة: إنه عظيم، فمعنى ذلك أن فوز الدنيا حقير، والتعبير عن فوز الآخرة هو تعبير من الحق سبحانه.
وبعد ذلك يأتي الحق بالمقابل: فيقول: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ...}.